سورة الزمر - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)}
قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ} رفع بالابتداء وخبره {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل، قال الفراء. وأجاز الكسائي والفراء أيضا {تَنْزِيلُ} بالنصب على أنه مفعول به. قال الكسائي: أي اتبعوا واقرءوا {تَنْزِيلُ الْكِتابِ}.
وقال الفراء: هو على الإغراء مثل قوله: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أي الزموا. والكتاب القرآن. سمي بذلك لأنه مكتوب.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} أي هذا تنزيل الكتاب من الله وقد أنزلناه بالحق، أي بالصدق وليس بباطل وهزل. {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً} {مُخْلِصاً} فيه مسألتان: الأولى: {مُخْلِصاً} نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا {لَهُ الدِّينَ} أي الطاعة.
وقيل: العبادة وهو مفعول به. {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} أي الذي لا يشوبه شي.
وفي حديث الحسن عن أبى هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إنى أتصدق بالشيء. وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} وقد مضى هذا المعنى في البقرة و{النساء} و{الكهف} مستوفى.
الثانية: قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان أن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} يعني الأصنام والخبر محذوف. أي قالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام في الأحقاف {فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً} [الأحقاف: 28] والزلفى القربة، أي ليقربونا إليه تقريبا، فوضع {زُلْفى} في موضع المصدر.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد {والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلْفى} وفي حرف أبي {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله زلفى} ذكره النحاس. قال: والحكاية في هذا بينة. {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحق. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ} أي من سبق له القضاء بالكفر لم يهتد، أي للدين الذي ارتضاه وهو دين الإسلام، كما قال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} وفي هذا رد على القدرية وغيرهم على ما تقدم. قوله تعالى: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ} أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم. {سُبْحانَهُ} أي تنزيها له عن الولد {هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.


{خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)}
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي هو القادر على الكمال المستغني عن الصاحبة والولد، ومن كان هكذا فحقه أن يفرد بالعبادة لا أنه يشرك به. ونبه بهذا على أن يتعبد العباد بما شاء وقد فعل. قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ} قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. وهذا على معنى التكوير في اللغة وهو طرح الشيء بعضه على بعض، يقال كور المتاع أي ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمامة. وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية. قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل وهو معنى قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} [فاطر: 13] وقيل: تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه، ويغشى النهار على الليل فيذهب ظلمته، وهذا قول قتادة. وهو معنى قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف: 4 5]. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي بالطلوع والغروب لمنافع العباد. {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وهو يوم القيامة حين تنفطر السماء وتنتثر الكواكب.
وقيل: الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهى فيه سير الشمس والقمر إلى المنازل المرتبة لغروبها وطلوعها. قال الكلبي: يسيران إلى أقصى منازلهما، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما لا يجاوزانه. وقد تقدم بيان هذا في سورة يس. {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} {ألا} تنبيه أي تنبهوا فإني أنا {الْعَزِيزُ} الغالب {الْغَفَّارُ} الساتر لذنوب خلقه برحمته. قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} يعني آدم عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها} يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في الأعراف وغيرها. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} أخبر عن الأزواج بالنزول، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج، ومثله قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً} [الأعراف: 26] الآية.
وقيل: أنزل أنشأ وجعل.
وقال سعيد بن جبير: خلق.
وقيل: إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض، كما قيل في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد.
وقيل: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام} أي أعطاكم.
وقيل: جعل الخلق إنزالا، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء. فالمعنى: خلق لكم كذا بأمره النازل. قال قتادة: من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد زوج. وقد تقدم هذا. {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. ابن زيد: {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم.
وقيل: في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع ذكره الماوردي. {فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ} ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك.
وقال ابن جبير: ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل. والقول الأول أصح.
وقيل: ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم. وهذا مذهب أبي عبيدة. أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين. {ذلِكُمُ اللَّهُ} أي الذي خلق هذه الأشياء {رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}. {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. وقرأ حمزة {أمهاتكم} بكسر الهمزة والميم. والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.


{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}
قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} شرط وجوابه. {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم.
وقال ابن عباس والسدي: معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [الإسراء: 65]. وكقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] أي المؤمنون. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة.
وقيل: لا يرضى الكفر وإن أراده، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرضى الشكر لكم، لأن {تَشْكُرُوا} يدل عليه. وقد مضى القول في الشكر في البقرة وغيرها. ويرضى بمعنى يثيب ويثني، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وإما ثناؤه فهو صفة ذات. و{يَرْضَهُ} بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم. وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن والكسائي وورش عن نافع. واختلس الباقون. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} تقدم في غير موضع.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8